الخميس، 20 سبتمبر 2012

حتى ( Ray Charles ) يا موسيقار الأجيال ؟!


في البداية، و قبل أي شيء، أود أن أنوِّه أنه رغم أني غير متخصص في الموسيقي، إلا أني أعتقد أنني أمتلك أذنا موسيقية جيدة، و لذلك تجرأت على كتابة هذا المقال، فربما جاءت تعبيراتي الموسيقية غير دقيقة من الناحية التقنية، و لكنني سأحاول بكل جهدي أن أعبِّر عن ما شَعُرَت به تلك الأذن .. فلنبدأ إذن.

ما إن نصحني صديقي الشاعر / أحمد البنداري بمشاهدة فيلم ( Ray ) عن قصة حياة مغنى الجاز الأمريكي الكبير ( Ray Charles )، حتى قمت بتحميله من الإنترنت، ثم أظلمت الغرفة، و انغمست تماما في حياة هذا الفنان العبقري الكفيف، تجربة ملهمة بحق، و إرادة حديدية، ذلك العشق القوى للحياة، و الشغف بالموهبة الذي يجعلها في المقام الأول، و دونها كل شيء، رأيت كيف استطاع طفل كفيف مدقع الفقر أن يتربع على عرش موسيقي ( الجاز ) في العالم، بإلهام موسيقي عجيب، و صوت خرافي يتراوح بين الهدوء و الدفء الشديد من ناحية، و القوة و الحدة التي تقارب الصراخ من ناحية أخرى، و كأنه المعبر عن روح خبرت كل معاني الوجود.
من حينها و أنا مفتون به، بدأت أبحث عن أغانية المسجلة، و حفلاته على موقع ( اليوتيوب )، حتى أنني حفظت بعض كلمات الأغاني، و جعلت أدندنها هنا و هناك :
Hit the road Jack
and don’t you come back
no more, no more
no more, no more

هذه الأغنية بالذات – Hit the road Jack  - أحببتها كثيرا، خصوصا و أنها تعتبر إحدى روائعه، و لكن كان هناك شيئا مألوفا أشعر به كلما استمعتُ إليها، شيئا سمعته كثيرا قبل ذلك، فأخذت أمعن التركيز، حتى تأكدت أن الجملة اللحنية الأساسية و التي تبدأ بها الأغنية و تستمر في الخلفية – لتظهر بين وقت و آخر – موجودة في أغنية عربية سمعتها كثيرا، فأخذني العجب و شعرت بإثارة شديدة، ممتزجة بخوف من عدم قدرتي على التذكر، فأمعنت التركيز أكثر و أكثر و عصرت عقلي حتى وجدتها؛
أغنية ( يا قلبي يا خالي ) .. غناء / عبد الحليم حافظ، و تلحين / محمد عبد الوهاب.

كنت قد سمعت قبل ذلك عن موضوع اقتباسات ( عبد الوهاب ) من الموسيقى الغربية في ألحانه، لكن ما كنت أعرفه أنه كان يقتبس من الموسيقى الكلاسيكية و الموسيقى الكنسية، مثل اقتباساته من ( كورساكوف ) في أغنية ( سجي الليل )، و من ( تشايكوفسكي ) في أغنية ( القمح )، و من ( بيتهوفن ) في أغنية ( أحب عيشة الحرية ) و غيرها، و هو ما لم ينكره هو شخصيا في مرحلة متقدمة من حياته، لكن أن أكتشف أنا شخصيا أحد هذه الاقتباسات بنفسي و عن طريق الصدفة المحضة، كان أمرا غريبا و مثيرا جدا.
أسرعت إلى العزيز ( اليوتيوب ) لأستمع إلى ( يا قلبي يا خالي )، و صدق حدسي، نفس الجملة الموسيقية التي افتتح بها ( Ray Charles ) أغنيته، قام ( عبد الوهاب ) باستخدامها في أغنية ( عبد الحليم ) و في نفس الموضع أيضا، ليس هذا فقط، فمع التدقيق الشديد في اللحن اكتشفت كيف استطاع ( عبد الوهاب ) أن يستفيد من اللحن الأجنبي، و بمنتهى الذكاء؛

أولا: في الأغنية الأجنبية تقوم الآلات النحاسية بعزف حلية من نغمة واحدة ترد على الغناء بين حين و آخر، فانتهج ( عبد الوهاب ) مبدأ الرد على الغناء بنغمة أو نغمتين من أول الأغنية العربية لكنه استخدم الوتريات، و لكنه أخذ النغمة الأكثر حدية في الأغنية الأجنبية ( في الثانية 42 ) كما هي – تعزفها النحاسيات – و نقلها إلى لحنه ثم قام بالتنويع عليها ( في الثانية 1:10 ).
ثانيا: نجد في الأغنية الأجنبية كورال من السيدات يرد على ( Ray Charles )، و هذا الكورال كان من ابتكاراته، و كان دائما ما يصاحبه في أغانيه، يردد مقطعا من الأغنية، أو تقوم إحدى عضواته بتبادل الغناء مع ( Ray ) فيما يشبه الـ ( ديالوج )، و هنا نجد أن الكورال كان يردد مقطعا قصيرا كل فترة و هو : no more, no more ، و ما قام به ( عبد الوهاب ) أنه أدخل كورالا نسائيا في أغنيته، و قام هذا الكورال بترديد مقطعا قصيرا أيضا و هو : ليه، ليه، ليه، ليه .. تماما كالأغنية الأجنبية !!

مما تقدم نرى مدى براعة الموسيقار ( محمد عبد الوهاب ) في الاقتباس، إذ أنه لم يكن يقتبس جملا موسيقية فقط، بل كان يقتبس فلسفة اللحن و الغناء أيضا، و أنا عن نفسي لا أستطيع أن أحكم إن كان ما فعله هذا يُعد سرقة أم لا، فلهذا أهله، و أنا غير متخصص على أية حال، و لكنى وجدت شيئا غريبا أثناء بحثي على الإنترنت؛ جزءا من مذكرات الفنانة ( بديعة صادق )، و لمن لا يعرفها فهي من غنَّت بصوتها وصورتها في فيلم تحت السلاح 1940، وغنت بصوتها فقط في فيلم سي عمر 1941،و فيلم ليلة الحظ 1945، وفي الفيلم الخامس ابن الشرق غنت بصوتها وصورتها 1947، وعملت وغنت في مسرحيةالعشره الطيبه، فشاركت الغناءعبد الغنى السيدوشهر زاد، و في العديد من الأوبريتات كان أشهرها الدندورمه، كما اشتهرت لها أغنية الأفراح ( يا محلى جمالك يا عروسة ).
ماذا قالت الفنانة ( بديعة صادق ) في هذا المقطع من مذكراتها ؟

قصة أبى مع عبد الوهاب

قص لي أبى هذه الحكاية أكثر من مرة فحفظتها، كما ذكرت؛ الفنانون يعملون بلا مقابل في هذه الفترة، خاصة من يعمل منهم في الأغاني الوطنية، و قال لي أبى وقتها : لم يكن لدينا مال حتى لشراء الحليب لك، و أنتي مازلت رضيعة، و كنتُ في حيرة من أمري، ماذا أفعل؟ جلوسي في المنزل بلا عمل لن يحل المشكلة، سأنزل في الشارع و أمشي و خلاص، ليس أمامي شيء و لا بيدي شيء، و لكن ربما لو نزلت من المنزل قد يفرجها الله من عنده.
و سار في الشارع، فقابله أحد زملائه في الفرقة الموسيقية، و قال له : يا أحمد هو اللحن ده مش بتاعك ؟، و كان يدندن له بلحن ( يا قلبي يا خالي )، قال له أبى: نعم هذا لحني، فقال صديقه : لقد انتهينا في هذه اللحظة من تسجيله في الأستوديو مع ( عبد الوهاب )، و قال أنه لحنه،
فما كان من أبى إلا أن ذهب إلى الأستاذ ( عبد الوهاب )، و قال له : الواقع أن هذا اللحن لي، فذهب عبد الوهاب إلى الخزانة، و أخرج 350 جنيه  و أعطاهم لأبى لإرضاؤه – مبلغ كبير جدا في ذلك الوقت طبعا – فرح بهم أبى، و قبل عودته إلى البيت اشترى ما لذ و طاب من الحليب و غذاء الأطفال و غيره.
أخذ أبى النقود، و لكن كل الوسط الفني يعلم أن لحن يا ( قلبي يا خالي ) لـ ( أحمدعلى )، و أخذه منه أو “اقتبسه منه” الفنان الكبير موسيقار الأجيال ( محمد عبدالوهاب ).

عند هذا الحد انتهى كلام الفنانة ( بديعة صادق )، هذا الكلام الخطير الذي إن كان صادقا فمفاده أن ( عبد الوهاب ) لم يبذل مجهودا يذكر في اللحن الذي وضع عليه اسمه، لقد سرق اللحن، و الجملة الموسيقية الافتتاحية ذات الطابع الغربي الجديد و الساحر في ذلك الوقت و المناسب للمطرب الشاب في حينها ( عبد الحليم حافظ )، و فلسفة الأغنية الجديدة أيضا متمثلة في الكورال النسائي ( الشقي ) و استخدام نغمات منفردة في الرد السريع ( الشقي ) أيضا على المغني، لم يبذل إلا مجهود إعمال ذكائه و حرفيته في الاستفادة من الأغنية الأجنبية التي تعب فيها يوما ما فنان أمريكي كفيف، شق طريقه في أعتى و أصعب الظروف، ليتربع بمجهوده على عرش موسيقي ( الجاز ) في العالم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق