الخميس، 20 سبتمبر 2012

نجيب محفوظ .. غوّاص فى بحر الواقع

 
إن قهر النفس أول الطريق لكل صاحب مشروع كبير ”
                                                                      نجيب محفوظ
الحارة المصرية .. تلك التركيبة العبقرية .. الجامعة للمتناقضات .. الآسرة للروح .. المستحوذة على الحواس، تلك الحالة الخاصة الفريدة فى العالم بخصوصية زمانها و مكانها ، أبت أن تستسلم لرياح التغيير لفترة كبيرة، و حين شعرت أنها مندثرة لا محالة، قررت أن تخلِّد نفسها ؛ فأنجبت من يماثلها فى العبقرية حتى يقوم بتأريخها فى أكثر أشكال التأريخ جمالا .. الأدب ، إنه عاشق المشربيات و الفتوات و التكايا و المقاهى .. إنه الفانى فى الحسين و الجمالية و العباسية و السيدة زينب .. إنه من سمح للعالم أن ينهل من الروح المصريَّة بروائح عطارتها و بديع معمارها و تمايل متصوفيها ، إنه أديب نوبل .. نجيب محفوظ.
شهد العام 1911 ولادة أديبنا العظيم نجيب محفوظ ، بحى الجمالية بالقاهرة ، لأب محب للسياسة غير ميَّال للقراءة ، و أم تتمتع بحرية نسبية بالنسبة لنساء ذلك العصر ؛ حيث كانت دائمة الذهاب إلى المتحف المصرى مصطحبة طفلها نجيب معها ، و كانت تجلس بالساعات داخل غرفة المومياوات ، فكبر أديبا محبا للتاريخ الفرعونى حبا شديدا ، حتى أنه قام بدراسته كاملا دراسة المتخصص.
فى الثانية عشرة إنتقل محفوظ مع أهله إلى حى العباسية ، و من هناك بدأت زياراته لحى الحسين الذى عشقه عشقا شديدا ، فكان دائم التردد عليه و السهر على مقاهيه ، خصوصا فى شهر رمضان حيث كانت تمتد السهرة إلى فجر اليوم التالى.
فى أحد الأيام رأى محفوظ أحد أصدقائه يقرأ رواية بوليسية فاستعارها منه ، و استمتع بها للغاية ، فانهال على باقى روايات تلك السلسة حتى أتمها ثم أخذ فى البحث عن سلاسل أخرى ، و بعد أن يقراء كل رواية كان يعيد كتابتها مع تعديلات بسيطة ، ثم يكتب على الغلاف ، تأليف : نجيب محفوظ.
بعد ذلك اتجه إلى قراءة المفكرين أمثال طه حسين و العقاد ، فما كان منه إلا أن فُتن بالفلسفة، و كانت هذه المرحلة هى بداية صراعه الداخلى بين الفلسفة المحترمة جدا فى الحياة الأدبية ، و القصة التى كانت غير محترمة بالقدر الكافى فى ذلك الوقت ، حتى أنه قرر دخول كلية الآداب قسم الفلسفة فى مفاجأة هزت كل من حوله ، و خصوصا مع تفوقه الشديد ، أراد محفوظ أن يدخل الآداب ليجد الإجابة على سؤال واحد .. ما هو سر الوجود ؟ ، كان يعتقد أنه كما يتعلم الطب طالب الطب ، يتعلم سر الوجود طالب الفلسفة.
لم ينتهى الصراع بين الأدب و الفلسفة بدخوله كلية الآداب ، بل على العكس تماما ؛ إزداد شدة ، إلى أن وصل للسنة الأخيرة له بالجامعة ، حينها أدرك ميله الحاد للأدب ؛ فحسم الصراع لصالحه عام 1936.
لم تكن هذه النقطة فى خط حياة أديبنا هى نقطة الراحة ، بل كانت نقطة التحول نحو تعب جديد ، كان يشعر أن الفلسفة قد أضاعت الكثير من وقته ، فهو الآن فى الخامسة و العشرين ، و لم يبدأ حتى فى قراءة عيون الأدب المعروفة ، لكنه لم يستسلم قط ، فشمَّر عن ساعدى الجد و الاجتهاد ، الوظيفة صباحا ، و القراءة و الكتابة باقى اليوم ، كان يسير على غير هدى ، فلم يكن يعلم من أين يبدأ ، حتى اهتدى إلى كتاب يؤرخ للأدب العالمى حتى عام 1930 ، فتعلم الإنجليزية ثم الفرنسية ليقرأ عيون الأدب العالمى فى لغتها الأصلية مستعينا بهذا الكتاب ، قرأ الحرب و السلام لتولستوى ، و الجريمة و العقاب لدستويفسكى ، كما قرأ لتشيكوف و موباسان و كافكا و بروست و جويس و شكسبير و يوجين أونيل و ابسن و ملفيل و حافظ الشيرازى و طاغور ، هذا إلى جانب بعض كتب التراث المهمة التى كان قد درسها فى المرحلة الثانوية كالأمالى لأبى على القالى ، و الكامل للمبرد ، كما كان شغوفا بالاطلاع على الكتب العلمية التى تقوم بتبسيط النظريات و الحقائق شغفا كاد أن يزيد فى بعض الأحيان عن شغفه بقراءة الأدب.
لم يكن للرواية وجودا يذكر فى مصر و لا فى العالم العربى وقتها ، لم تظهر إلا بعض المحاولات المنفردة هنا و هناك ؛ فكانت هناك رواية زينب لمحمد حسين هيكل و هى كما يرى محفوظ رواية عادية جدا ، و رواية لطه حسين و أخرى للعقاد لكنهما بالأصل مفكرين لا روائيين ، و عودة الروح لتوفيق الحكيم التى يراها أقرب للعمل المسرحى ، و كانت المدرسة الواقعية فى أوربا قد قاربت الاندثار ، بل و تلقى أشد النقد من أصحاب المدرسة الجديدة فى الكتابة .. تيار الوعى و اللاوعى ، لكن أديبنا لم ينسق وراء ذلك ، بل كان شديد الموضوعية و الصدق مع الذات ، و نورد هنا بعض أقوال أديبنا العظيم تلخص فلسفته فى الكتابة علها تكون نبراسا للأدباء الشباب ، يقول نجيب محفوظ :
-       كيف أغوص إلى واقع لم يوصف فى ظاهره ، و لم تُرصد علاقاته ، … الغوص إلى الداخل يبدو منطقيا مع بطل جويس لأنه منطو و منغلق ، المهم أن يدرك الكاتب الأسلوب المناسب للتعبير عن موضوعه و عن نفسه.
-       كنت أتصور أن هناك رواية صح ، و رواية غير صح ، الآن .. تغيرت النظرية ، الرواية الصحيحة هى النابعة من نغمة داخلية ، فلا أنا أقلد المقامة ، و لا أقلد جويس.
      من أغرب الأسئلة التى أسمعها ، واحد يسأل ” إنت عايز تقول إيه فى القصة دى ؟ ” ، طيب ما أنا لو عاوز أقول حاجه معينه أقولها فى جملة أو مقالة ، و خلاص.
-       عندما أكتب لا أعبأ بشىء.
بدأ نجيب محفوظ مشواره الأدبى بنشر القصص القصيرة و المقالات فى المجلات المختلفة ، ثم بدأ نتاجه الروائى بثلاث روايات تاريخية عن مصر القديمة و هى على التوالى : عبث الأقدار ، رادوبيس ، كفاح طيبة ، فى إطار مشروع لكتابة تاريخ مصر لكنه توقف بعد ذلك و أعاد تقييم مشروعه الإبداعى ، لأنه شعر أن التاريخ لم يعد كافيا كوعاء يحمل ما يريد قوله ، فكتب خان الخليلى ، و أتبعها بالقاهرة الجديدة ، ثم توالت أعماله التى وصل عددها إلى 38 رواية و 13 مجموعة قصصية ، استطاعت أن تصور التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمصر خلال القرن الماضي ، بل و نقلته للعالم أجمع حيث تمت ترجمتها إلى زهاء 33 لغة ، هذا بالإضافة إلى تسجيلها بمكتبة الكونجرس الأمريكى باعتباره أحد الكتاب البارزين فى العالم ، و مع كل هذا الكم الكبير من الإبداع السردى تظل أقرب أعماله إلى قلبه هى : الثلاثية ، و الحرافيش ، و أولاد حارتنا ، و حكايات حارتنا.
كان نجيب محفوظ قد حصل قبل عام 1988 على العديد من الجوائز القيمة كجائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 1957 ، و وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1962 ، و جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1968 ، و وسام الجمهورية من الدرجة الأولى عام 1969 ، لكن هذا العام – 1988 – جاء ليزف معه بشرى عظيمة لمصر و للعالم العربى بل و لدول العالم الثالث بأجمعه ؛ بشرى تكليل مجهود الأديب المصرى العربى نجيب محفوظ بحصوله على أكبر و أعظم جائزة أدبية فى العالم .. جائزة نوبل.
كم كان أديبنا الكبير نجيب محفوظ –  الذى رحل عنا عام 2006 – عظيما حين كتب خطاب نوبل الذى ألقاه عنه الأديب محمد سلماوى بالسويد ، هذا الخطاب الذى هو علامة على إنكار الذات و التمسك بالهم العام و القضايا الوطنية فى أكثر اللحظات التى تغرى الإنسان بالنرجسية و الفخر بالنفس ، لم يتحدث عن نفسه باعتباره الأديب الكبير ، بل اتخذ من ثقافته العربية الإسلامية بابا ليُعرِّف المجتمع الغربى بهما ، أيضا تحدث عن القضية الفلسطينية و الانتفاضة فى وقت كان إعلام العالم يصور للمواطن الغربى أنها إرهابا و افتراء … ، الأفضل أن نقرأ معا ما كتبه هذا العَلَم الكبير فى هذه المناسبة :

0 التعليقات:

إرسال تعليق